فصل: باب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ

مساءً 6 :35
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِثْمُ مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إثم من فاتته صلاة العصر‏)‏ أشار المصنف بذكر الإثم إلى أن المراد بالفوات تأخيرها عن وقت الجواز بغير عذر، لأن الإثم إنما يترتب على ذلك، وسيأتي البحث في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَتِرَكُمْ وَتَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلْتَ لَهُ قَتِيلًا أَوْ أَخَذْتَ لَهُ مَالًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏الذي تفوته‏)‏ قال ابن بزيزة‏:‏ فيه رد على من كره أن يقول فاتتنا الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي الكلام على ذلك في باب مفرد في صلاة الجماعة‏.‏

قوله ‏(‏صلاة العصر فكأنما‏)‏ كذا للكشميهني، وسقط للأكثر لفظ صلاة والفاء من قوله فكأنما‏.‏

قوله ‏(‏وتر أهله‏)‏ هو بالنصب عند الجمهور على أنه مفعول ثان لوتر، وأضمر في وتر مفعول لم يسم فاعله وهو عائد على الذي فاتته، فالمعنى أصيب بأهله وماله‏.‏

وهو متعد إلى مفعولين‏.‏

ومثله قوله تعالى ‏(‏ولن يتركم أعمالكم‏)‏ ، وإلى هذا أشار المصنف فيما وقع في رواية المستملي قال‏:‏ قال أبو عبد الله يتركم‏.‏

انتهى‏.‏

وقيل وتر هنا بمعنى نقص، فعلى هذا يجوز نصبه ورفعه، لأن من رد النقص إلى الرجل نصب وأضمر ما يقوم مقام الفاعل، ومن رده إلى الأهل رفع‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يروى بالنصب على أن وتر بمعنى سلب وهو يتعدى إلى مفعولين، وبالرفع على أن وتر بمعنى أخذ فيكون أهله هو المفعول الذي لم يسم فاعله‏.‏

ووقع في رواية المستملي أيضا وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا أو أخذت ماله، وحقيقة الوتر كما قال الخليل هو الظلم في الدم، فعلى هذا فاستعماله في المال مجاز، لكن قال الجوهري‏:‏ الموتور هو الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه وتر وتقول أيضا وتره حقه أي نقصه‏.‏

وقيل الموتور من أخذ أهله أو ماله وهو ينظر إليه وذلك أشد لغمه، فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة لأنه يجتمع عليه غمان‏:‏ غم الإثم وغم فقد الثواب‏.‏

كما يجتمع على الموتور غمان‏:‏ غم السلب، وغم الطلب بالثأر‏.‏

وقيل‏:‏ معنى وتر أخذ أهله وماله فصار وترا أي فردا، ويؤيد الذي قبله رواية أبي مسلم الكجي من طريق حماد بن سلمة عن أيوب نافع فذكر نحو هذا الحديث وزاد في آخره ‏"‏ وهو قاعد‏"‏، وظاهر الحديث التغليظ على من تفوته العصر، وأن ذلك مختص بها‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ يحتمل أن يكون هذا الحديث خرج جوابا لسائل سأل عن صلاة العصر فأجيب، فلا يمنع ذلك إلحاق غيرها من الصلوات بها‏.‏

وتعقبه النووي بأنه إنما يلحق غير المنصوص بالمنصوص إذا عرفت العلة واشتركا فيها‏.‏

قال‏:‏ والعلة في هذا الحكم لم تتحقق فلا يلتحق غير العصر بها‏.‏

انتهى‏.‏

وهذا لا يدفع الاحتمال‏.‏

وقد احتج ابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق أبي قلابة عن أبي الدرداء مرفوعا ‏"‏ من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته ‏"‏ الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وفي إسناده انقطاع لأن أبا قلابة لم يسمع من أبي الدرداء‏.‏

وقد رواه أحمد من حديث أبي الدرداء بلفظ ‏"‏ من ترك العصر ‏"‏ فرجع حديث أبي الدرداء إلى تعيين العصر‏.‏

وروى ابن حبان وغيره من حديث نوفل بن معاوية مرفوعا ‏"‏ من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله ‏"‏ وهذا ظاهره العموم في الصلوات المكتوبات‏.‏

وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن نوفل بلفظ ‏"‏ لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة ‏"‏ وهذا أيضا ظاهره العموم‏.‏

ويستفاد منه أيضا ترجيح توجيه رواية النصب المصدر بها، لكن المحفوظ من حديث نوفل بلفظ ‏"‏ من الصلوات صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله ‏"‏ أخرجه المصنف في علامات النبوة ومسلم أيضا والطبراني وغيرهم، ورواه الطبراني من وجه آخر وزاد فيه عن الزهري‏:‏ قلت لأبي بكر - يعني ابن عبد الرحمن وهو الذي حدثه به - ما هذه الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ العصر‏.‏

ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر فصرح بكونها العصر في نفس الخبر، والمحفوظ أن كونها العصر من تفسير أبي بكر بن عبد الرحمن، ورواه الطحاوي والبيهقي من وجه آخر وفيه أن التفسير من قول ابن عمر، فالظاهر اختصاص العصر بذلك، وسيأتي تقريره في الكلام على الحديث الذي بعده‏.‏

ومما يدل على أن المراد بتفويتها إخراجها عن وقتها ما وقع في رواية عبد الرزاق فإنه أخرج هذا الحديث عن ابن جريج عن نافع فذكر نحوه وزاد ‏"‏ قلت لنافع‏:‏ حين تغيب الشمس‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ وتفسير الراوي إذا كان فقيها أولى من غيره، لكن روى أبو داود عن الأوزاعي أنه قال في هذا الحديث ‏"‏ وفواتها أن تدخل الشمس صفرة ‏"‏ ولعله مبني على مذهبه في خروج وقت العصر‏.‏

ونقل عن ابن وهب أن المراد إخراجها عن الوقت المختار‏.‏

وقال المهلب ومن تبعه من الشراح‏:‏ إنما أراد فواتها في الجماعة لا فواتها باصفرار الشمس أو بمغيبها‏.‏

قال‏:‏ ولو كان لفوات وقتها كله لبطل اختصاص العصر، لأن ذهاب الوقت موجود في كل صلاة ونوقض بعين ما ادعاه، لأن فوات الجماعة موجود في كل صلاة لكن في صدر كلامه أن العصر اختصت بذلك لاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها، وتعقبه ابن المنير بأن الفجر أيضا فيها اجتماع المتعاقبين فلا يختص العصر بذلك، قال‏:‏ والحق أن الله تعالى يختص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة‏.‏

انتهى‏.‏

وبوب الترمذي على حديث الباب ‏"‏ ما جاء في السهو عن وقت العصر ‏"‏ فحمله على الساهي، وعلى هذا فالمراد بالحديث أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق من ذهب منه أهله وماله، وقد روى بمعنى ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر، ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد، لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ في هذا الحديث إشارة إلى تحقير الدنيا وأن قليل العمل خير من كثير منها‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ لا يوجد حديث يقوم مقام هذا الحديث، لأن الله تعالى قال ‏(‏حافظوا على الصلوات‏)‏ وقال‏:‏ ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غير هذا الحديث‏.‏

*3*باب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من ترك العصر‏)‏ أي ما يكون حكمه‏؟‏ قال ابن رشيد‏:‏ أجاد البخاري حيث اقتصر على صدر الحديث فأبقى فيه محلا للتأويل‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان ينبغي أن يذكر حديث الباب في الباب الذي قبله ولا يحتاج إلى هذه الترجمة‏.‏

وتعقب بأن الترك أصرح بإرادة التعمد من الفوات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا مسلم بن إبراهيم‏)‏ سقط عند الأصيلي ‏"‏ ابن إبراهيم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا هشام‏)‏ وقع عند غير أبي ذر ‏"‏ أنبأنا هشام ‏"‏ وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي‏.‏

قوله ‏(‏أخبرنا يحيى‏)‏ عند غير أبي ذر ‏"‏ حدثنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي قلابة‏)‏ عند ابن خزيمة من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام عن يحيى أن أبا قلابة حدثه‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي المليح‏)‏ عند المصنف في ‏"‏ باب التبكير بالصلاة في يوم الغيم ‏"‏ عن معاذ بن فضالة عن هشام في هذا الإسناد أن أبا المليح حدثه، وأبو المليح هو ابن أسامة بن عمير الهذلي، وقد تقدم أن اسمه عامر وأبوه صحابي، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين على نسق‏.‏

وتابع هشاما على هذا الإسناد عن يحيى بن أبي كثير شيبان ومعمر وحديثهما عند أحمد، وخالفهم الأوزاعي فرواه عن يحيى عن أبي قلابة عن أبي المهاجر عن بريدة، والأول هو المحفوظ، وخالفهم أيضا في سياق المتن كما سيأتي التنبيه عليه في ‏"‏ باب التبكير ‏"‏ المذكور إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏كنا مع بريدة‏)‏ هو ابن الحصيب الأسلمي‏.‏

قوله ‏(‏ذي غيم‏)‏ قيل خص يوم الغيم بذلك لأنه مظنة التأخير إما لمتنطع يحتاط لدخول الوقت فيبالغ في التأخير حتى يخرج الوقت، أو لمتشاغل بأمر آخر فيظن بقاء الوقت فيسترسل في شغله إلى أن يخرج الوقت‏.‏

قوله ‏(‏بكروا‏)‏ أي عجلوا، والتبكير يطلق لكل من بادر بأي شيء كان في أي وقت كان، وأصله المبادرة بالشيء أول النهار‏.‏

قوله ‏(‏فإن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ الفاء للتعليل، وقد استشكل معرفة تيقن دخول أول الوقت مع وجود الغيم لأنهم لم يكونوا يعتمدون فيه إلا على الشمس، وأجيب باحتمال أن بريدة قال ذلك عند معرفة دخول الوقت، لأنه لا مانع في يوم الغيم من أن تظهر الشمس أحيانا‏.‏

ثم إنه لا يشترط - إذا احتجبت الشمس - اليقين بل يكفي الاجتهاد‏.‏

قوله ‏(‏من ترك صلاة العصر‏)‏ زاد معمر في روايته ‏"‏ متعمدا ‏"‏ وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء‏.‏

قوله ‏(‏فقد حبط‏)‏ سقط ‏"‏ فقد ‏"‏ من رواية المستملي‏.‏

وفي رواية معمر ‏"‏ أحبط الله عمله‏"‏‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث من يقول بتكفير أهل المعاصي من الخوارج وغيرهم وقالوا‏:‏ هو نظير قوله تعالى ‏(‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله‏)‏ وقال ابن عبد البر‏:‏ مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله فيتعارض مفهومها ومنطوق الحديث فيتعين تأويل الحديث، لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح‏.‏

وتمسك بظاهر الحديث أيضا الحنابلة ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر، وجوابهم ما تقدم‏.‏

وأيضا فلو كان على ما ذهبوا إليه لما اختصت العصر بذلك‏.‏

وأما الجمهور فتأولوا الحديث، فافترقوا في تأويله فرقا‏.‏

فمنهم من أول سبب الترك، ومنهم من أول الحبط، ومنهم من أول العمل فقيل‏:‏ المراد من تركها جاحدا لوجوبها، أو معترفا لكن مستخفا مستهزئا بمن أقامها‏.‏

وتعقب بأن الذي فهمه الصحابي إنما هو التفريط، ولهذا أمر بالمبادرة إليها، وفهمه أولى من فهم غيره كما تقدم‏.‏

وقيل المراد من تركها متكاسلا لكن خرج الوعيد مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد كقوله ‏"‏ لا يزني الزاني وهو مؤمن ‏"‏ وقيل هو من مجاز التشبيه كأن المعنى‏:‏ فقد أشبه من حبط عمله، وقيل معناه كاد أن يحبط، وقيل المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي لا يحصل على أجر من صلى العصر ولا يرتفع له عملها حينئذ، وقيل المراد بالحبط الإبطال أي يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما ثم ينتفع به، كمن رجحت سيئاته على حسناته فإنه موقوف في المشيئة فإن غفر له فمجرد الوقوف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك وإن عذب ثم غفر له فكذلك‏.‏

قال معنى ذلك القاضي أبو بكر بن العربي، وقد تقدم مبسوطا في كتاب الإيمان في ‏"‏ باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله ‏"‏ ومحصل ما قال أن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث‏.‏

وقال في شرح الترمذي‏:‏ الحبط على قسمين، حبط إسقاط وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وحبط موازنة وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة فيرجع إليه جزاء حسناته‏.‏

وقيل المراد بالعمل في الحديث عمل الدنيا الذي يسبب الاشتغال به ترك الصلاة، بمعنى أنه لا ينتفع به ولا يتمتع، وأقرب هذه التأويلات قول من قال‏:‏ إن ذلك خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد، والله أعلم‏.‏

*3*باب فَضْلُ صَلَاةِ الْعَصْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب فضل صلاة العصر‏)‏ أي على جميع الصلوات إلا الصبح، وإنما حملته على ذلك لأن حديثي الباب لا يظهر منهما رجحان العصر عليها، ويحتمل أن يكون المراد أن العصر ذات فضيلة لا ذات أفضلية

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ افْعَلُوا لَا تَفُوتَنَّكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، ووقع عند ابن مردويه من طريق شعبة عن إسماعيل التصريح بسماع إسماعيل من قيس وسماع قيس من جرير‏.‏

قوله ‏(‏فنظر إلى القمر ليلة‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ ليلة البدر ‏"‏ وكذا للمصنف من وجه آخر، وهو خال من العنعنة أيضا كما سيأتي في ‏"‏ باب فضل صلاة الفجر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا تضامون‏)‏ بضم أوله مخففا، أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ، وروى بفتح أوله والتشديد من الضم، والمراد نفي الازدحام، وسيأتي بسط ذلك في كتاب التوحيد‏.‏

قوله ‏(‏فإن استطعتم أن لا تغلبوا‏)‏ فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له‏.‏

و قوله ‏(‏فافعلوا‏)‏ أي عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد‏.‏

ووقع في رواية شعبة المذكورة ‏"‏ فلا تغفلوا عن صلاة ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله ‏(‏قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ يعني العصر والفجر ‏"‏ ولابن مردويه من وجه آخر عن إسماعيل ‏"‏ قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر ‏"‏ وقال ابن بطال قال المهلب‏:‏ قوله ‏"‏ فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة ‏"‏ أي في الجماعة‏.‏

قال‏:‏ وخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم‏.‏

قلت‏:‏ وعرف بهذا مناسبة إيراد حديث ‏"‏ يتعاقبون ‏"‏ عقب هذا الحديث، لكن لم يظهر لي وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة، وإن كان فضل الجماعة معلوما من أحاديث أخر، بل ظاهر الحديث يتناول من صلاهما ولو منفردا، إذ مقتضاه التحريض على فعلهما أعم من كونه جماعة أو لا‏.‏

قوله ‏(‏فافعلوا‏)‏ قال الخطابي‏:‏ هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين ا ه‏.‏

وقد يستشهد لذلك بما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رفعه، قال ‏"‏ إن أدنى أهل الجنة منزلة ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ‏"‏ وفي سنده ضعف‏.‏

قوله ‏(‏ثم قرأ‏)‏ كذا في جميع روايات الجامع، وأكثر الروايات في غيره بإبهام فاعل قرأ، وظاهره أنه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم أر ذلك صريحا، وحمله عليه جماعة من الشراح، ووقع عند مسلم عن زهير بن حرب عن مروان بن معاوية بإسناد حديث الباب ‏"‏ ثم قرأ جرير ‏"‏ أي الصحابي، وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد، فظهر أنه وقع في سياق حديث الباب وما وافقه إدراج‏.‏

قال العلماء‏:‏ ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازي المحافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى‏.‏

وقيل لما حقق رؤية الله تعالى برؤية القمر والشمس - وهما آيتان عظيمتان شرعت لخسوفهما الصلاة والذكر - ناسب من يحب رؤية الله تعالى أن يحافظ على الصلاة عند غروبها ا هـ‏.‏

ولا يخفى بعده وتكلفه، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يتعاقبون‏)‏ أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين بأن يأتي هذا مرة ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثا إلى مدة ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين‏.‏

قال القرطبي‏:‏ الواو في قوله ‏"‏ يتعاقبون ‏"‏ علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث وهم القائلون أكلوني البراغيث، ومنه قول الشاعر بحوران يعصرن السليط أقاربه وهي لغة فاشية وعليها حمل الأخفش قوله تعالى ‏(‏وأسروا النجوى الذين ظلموا‏)‏ قال‏:‏ وقد تعسف بعض النحاة في تأويلها وردها للبدل، وهو تكلف مستغنى عنه، فإن تلك اللغة مشهورة ولها وجه من القياس واضح‏.‏

وقال غيره في تأويل الآية‏:‏ قوله ‏(‏وأسروا‏)‏ عائد على الناس المذكورين أولا‏.‏

و ‏(‏الذين ظلموا‏)‏ بدل من الضمير‏.‏

وقيل التقدير أنه لما قيل ‏(‏وأسروا النجوى‏)‏ قيل‏:‏ من هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الذين ظلموا‏)‏ حكاه الشيخ محيي الدين، والأول أقرب إذ الأصل عدم التقدير‏.‏

وتوارد جماعة من الشراح على أن حديث الباب من هذا القبيل، ووافقهم ابن مالك وناقشه أبو حيان زاعما أن هذه الطريق اختصرها الراوي، واحتج لذلك بما رواه البزار من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم‏:‏ ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ‏"‏ الحديث، وقد سومح في العزو إلى مسند البزار مع أن هذا الحديث بهذا اللفظ في الصحيحين فالعزو إليهما أولى، وذلك أن هذا الحديث رواه عن أبي الزناد مالك في الموطأ ولم يختلف عليه باللفظ المذكور وهو قوله ‏"‏ يتعاقبون فيكم ‏"‏ وتابعه على ذلك عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخرجه سعيد بن منصور عنه، وقد أخرجه البخاري في بدء الخلق من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد بلفظ ‏"‏ الملائكة يتعاقبون‏:‏ ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار‏"‏، وأخرجه النسائي أيضا من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزناد بلفظ ‏"‏ إن الملائكة يتعاقبون فيكم ‏"‏ فاختلف فيه علي أبي الزناد، فالظاهر أنه كان تارة يذكره هكذا وتارة هكذا، فيقوي بحث أبي حيان، ويؤيد ذلك أن غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رووه تاما فأخرجه أحمد ومسلم من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عقبة لكن بحذف ‏"‏ إن ‏"‏ من أوله، وأخرجه ابن خزيمة والسراج من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إن لله ملائكة يتعاقبون ‏"‏ وهذه هي الطريقة التي أخرجها البزار، وأخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح من طريق أبي موسى عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إن الملائكة فيكم يتعقبون ‏"‏ وإذا عرف ذلك فالعزو إلى الطريق التي تتحد مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريق مغايرة لها، فليعز ذلك إلى تخريج البخاري والنسائي من طريق أبي الزناد لما أوضحته‏.‏

والله الموفق‏.‏

قوله ‏(‏فيكم‏)‏ أي المصلين أو مطلق المؤمنين‏.‏

قوله ‏(‏ملائكة‏)‏ قيل هم الحفظة نقله عياض وغيره عن الجمهور، وتردد ابن بزيزة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الأظهر عندي أنهم غيرهم، ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله ‏"‏ كيف تركتم عبادي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ويجتمعون‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ التعاقب مغاير للاجتماع، لكن ذلك منزل على حالين‏.‏

قلت‏:‏ وهو ظاهر‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها، كما يحتمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الشخص‏.‏

قال عياض‏:‏ والحكمة في اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم بأن جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة‏.‏

قلت‏:‏ وفيه شيء، لأنه رجح أنهم الحفظة، ولا شك أن الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات، فالأولى أن يقال‏:‏ الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر، ويحتمل أن يقال إن الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين، لكنه بناء على أنهم غير الحفظة‏.‏

وفيه إشارة إلى الحديث الآخر ‏"‏ إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ‏"‏ فمن ثم وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه‏.‏

قوله ‏(‏ثم يعرج الذين باتوا فيكم‏)‏ استدل به بعض الحنفية على استحباب تأخير صلاة العصر ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النهار، وتعقب بأن ذلك غير لازم، إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة بل جائز أن تفرغ الصلاة ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار، ولا مانع أيضا من أن تصعد ملائكة النهار وبعض النهار باق وتقيم ملائكة الليل، ولا يرد على ذلك وصفهم بالمبيت بقوله ‏"‏ باتوا فيكم ‏"‏ لأن اسم المبيت صادق عليهم ولو تقدمت إقامتهم بالليل قطعة من النهار‏.‏

قوله ‏(‏الذين باتوا فيكم‏)‏ اختلف في سبب الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظلوا، فقيل‏:‏ هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر كقوله تعالى ‏(‏فذكر إن نفعت الذكرى‏)‏ أي وإن لم تنفع، وقوله تعالى ‏(‏سرابيل تقيكم الحر‏)‏ أي والبرد، وإلى هذا أشار ابن التين وغيره، ثم قيل‏:‏ الحكمة في الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل، فلو ذكره لكان تكرارا‏.‏

ثم قيل‏:‏ الحكمة في الاقتصار على هذا الشق دون الآخر أن الليل مظنة المعصية فلما لم يقع منهم عصيان - مع إمكان دواعي الفعل من إمكان الإخفاء ونحوه - واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك، فكان السؤال عن الليل أبلغ من السؤال عن النهار لكون النهار محل الاشتهار‏.‏

وقيل‏:‏ الحكمة في ذلك أن ملائكة الليل إذا صلوا الفجر عرجوا في الحال، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لبثوا إلى آخر النهار لضبط بقية عمل النهار، وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر، وهو خلاف ظاهر الحديث كما سيأتي‏.‏

ثم هو مبني على أنهم الحفظة وفيه نظر لما سنبينه، وقيل بناه أيضا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم، وملائكة الليل هم الذين يعرجون ويتعاقبون، ويؤيده ما رواه أبو نعيم في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ له من طريق الأسود بن يزيد النخعي قال‏:‏ يلتقي الحارسان - أي ملائكة الليل وملائكة النهار - عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار‏.‏

وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة، وأما النزول فيقع في الصلاتين معا، وفيه التعاقب، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى حصل اجتماعهم عند العصر أيضا ولا يصعد منهم أحد بل تبيت الطائفتان أيضا ثم تعرج إحدى الطائفتين ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر، فلهذا خص السؤال بالذين باتوا، والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله في هذا الحديث ‏"‏ ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ‏"‏ وهم لأنه ثبت في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر كما في الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه ‏"‏ وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ‏"‏ قال أبو هريرة‏:‏ وأقرؤوا إن شئتم ‏(‏وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا‏)‏ وفي الترمذي والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى ‏(‏إن قرآن الفجر كان مشهودا‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏ تشهده ملائكة الليل والنهار ‏"‏ وروى ابن مردويه من حديث أبي الدرداء مرفوعا نحوه، قال ابن عبد البر‏:‏ ليس في هذا دفع للرواية التي فيها ذكر العصر، إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية والحديث الآخر عدم اجتماعهم في العصر لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون الاقتصار وقع في الفجر لكونها جهرية، وبحثه الأول متجه لأنه لا سبيل إلى ادعاء توهيم الراوي الثقة مع إمكان التوفيق بين الروايات، ولا سيما أن الزيادة من العدل الضابط مقبولة‏.‏

ولم لا يقال‏:‏ إن رواية من لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار واقع من تقصير بعض الرواة، أو يحمل قوله ‏"‏ ثم يعرج الذين باتوا ‏"‏ على ما هو أعم من المبيت بالليل والإقامة بالنهار، فلا يختص ذلك بليل دون نهار ولا عكسه، بل كل طائفة منهم إذا صعدت سئلت، وغاية ما فيه أنه استعمل لفظ ‏"‏ بات ‏"‏ في أقام مجازا، ويكون قوله ‏"‏ فيسألهم ‏"‏ أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، ويدل على هذا الحمل رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند النسائي ولفظه ‏"‏ ثم يعرج الذين كانوا فيكم ‏"‏ فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار، وهذا أقرب الأجوبة‏.‏

وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحا وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين، وذلك فيما رواه ابن خزيمة في صحيحه وأبو العباس السراج جميعا عن يوسف بن موسى عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل وتبيت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم‏:‏ كيف تركتم عبادي ‏"‏ الحديث‏.‏

وهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة، فهي المعتمدة، ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة‏.‏

قوله ‏(‏فيسألهم‏)‏ قيل الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة ‏(‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون‏)‏ أي وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم‏.‏

وقال عياض‏:‏ هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف تركتم عبادي‏)‏ قال ابن أبي جمرة‏.‏

وقع السؤال عن آخر الأعمال لأن الأعمال بخواتيمها‏.‏

قال والعباد المسئول عنهم هم المذكورون في قوله تعالى ‏(‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون‏)‏ لم يراعوا الترتيب الوجودي، لأنهم بدؤوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال لأنه قال‏:‏ كيف تركتم‏؟‏ ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله، وقوله ‏"‏تركناهم وهم ‏"‏ ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر سواء تمت أم منع مانع من إتمامها وسواء شرع الجميع فيها أم لا لأن المنتظر في حكم المصلي، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم ‏"‏ وهم يصلون ‏"‏ أي ينتظرون صلاة المغرب‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ الواو في قوله ‏"‏ وهم يصلون ‏"‏ واو الحال أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها لأنا نقول‏:‏ هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ استنبط منه بعض الصوفية أنه يستحب أن لا يفارق الشخص شيئا من أموره إلا وهو على طهارة كشعره إذا حلقه وظفره إذا قلمه وثوبه إذا أبدله ونحو ذلك‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه، لأنهم علموا أنه سؤال يستدعى التعطف على بني آدم فزادوا في موجب ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في صحيح ابن خزيمة من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث ‏"‏ فاغفر لهم يوم الدين ‏"‏ قال‏:‏ ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان وفي غيرهما طائفة واحدة والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، والله أعلم‏.‏

ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره‏.‏

وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان‏.‏

وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا‏.‏

وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حبا ونتقرب إلى الله بذلك‏.‏

وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته‏.‏

وغير ذلك من الفوائد والله أعلم‏.‏

وسيأتي الكلام على ذلك في ‏"‏ باب قوله ثم يعرج ‏"‏ في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏